"ماطا"عادة قديمة عند القبائل الجبلية المغربية تعود لقرون غابرة...

 "ماطا"عادة قديمة عند القبائل الجبلية المغربية تعود لقرون غابرة.


       تتجسد عادة "ماطا" في فارس يحمل الدمية العروس "ماطا" متجها صوب خط النهاية وخلفه فرسان آخرون يطاردونه لانتزاعها منه في مهرجان فروسية شهير بالقبائل الجبلية.

يبتدء الحفل بتقدم شايب من القبيلة بهندامه الجبلي التقليدي - الجلباب والعمامة- نحو نسوة من قبائل جبالة مزهوات بالألوان، ويلتقط دمية صغيرة من يد إحداهن ثم ينطلق بعيدا بحصانه على امتداد السهل وخلفه بقية الفرسان من أبناء قبيلته والقبائل المنافسة على الظفر بالدمية العروس "ماطا".

وتُعد "ماطا" من أشكال الفروسية المغربية العريقة غير أنها تنحصر بين قبائل بني عروس وجيرانهم في منطقة جبالة بالشمال الغربي المغربي. إذ يحرص من خلالها الفلاحون على الاجتماع سنويا في قرية تدعى مدشر زنيد بضواحي مدينة العرائش بعد حصاد حقول القمح، من أجل الاحتفال بموسم الحصاد والخصوبة التي تُعد رمزا من رموز فصل الربيع.

لم تعد ماطا -التي كادت توشك على الاندثار- فرجة شعبية فحسب، بل اكتست منذ عام 2011 طابعا رسميا مع إعلان المهرجان الدولي لفروسية ماطا بمبادرة من الجمعية العَلَمية العروسية للعمل الثقافي وحضور الأميرة الراحلة لالة أمينة، لتستمر فعالياته منذ ذلك الحين وصولا إلى تنظيم النسخة الـ11 بشراكة مع المهرجان الدولي للتنوع الثقافي لليونسكو التي انطلقت في الثاني من يونيو/حزيران 2023.

ولن تصل الدمية إلى ميدان الفرسان من دون أن تمضي وقتا بين نساء القبائل اللواتي يولونها عناية خاصة، وهن يرتدين الزي التقليدي للمرأة الجبلية، ويقمن بتزيينها بالحلي والثياب المزركشة، وتجهيزها مثل العروس في زفافها مع صلوات وأهازيج احتفالية، بعد صناعتها بواسطة القصب وأوراق النباتات. وعند خروج النسوة إلى الساحة حيث يصطف الفرسان بأحصنتهم غير المسرجة في انتظار تحديد هوية الفريق الذي يحمي الدمية، سلّمن الأخيرة إلى أحد الشباب عن قبيلة بني كرفط.

وحسب قوانين المسابقة، وفي حال انتزاع الدمية من قبل فارس منافس يُعلَن فوزه عند بلوغه خط النهاية، أما إذا أحس بعدم المقدرة على الاستمرار يكون عليه تمرير الدمية إلى أسرع زملائه في الجولة.

وعند وصول الشاب الذي يحمل الدمية إلى خط النهاية مرفوقا بعروسه "الدمية الرمز" يحتفل به وسط هتافات حماسية على أنغام الموسيقى الجبلية المعروفة ب"الطقطوقة الجبلية".

ولـ"ماطا" أثر على روحه ساكنة المنطقة وذكرياتهم بداية القرن الماضي. حيث بدأ الاحتفال بهذه الللعبة رسميا  سنة 1982. فهذه اللعبة تمثل الموروث الثقافي لدى ساكنة المنطقة الجبلية، والذي يُعَد ذاكرة للشعوب، والتي تعبر من خلاله عن انتماءها الذي يصل إلى عقود أو مئات السنين.

ففروسية واحتفالية "ماطا المغربية" التي تتجاوز جميع نسخ المهرجان الدولي للفروسية بمدشر زنيد، كما يبدو أنها تتعدى ثمانينيات القرن الماضي.

وتقول الحكاية الشفهية أنها أصل "ماطا" كما تحكي الرواية عند القبائل الجبلية أن شابٍّا أحب فتاة إحدى القبائل القبلية، غير أن هذه الاخيرة رفضت تزويجه بها، بدعوى أنه كان عاملا وخادما لدى تلك القبيلة. فخطرت على بال الشباب الشغوف بالبنت اختطافها والهرب بها على صهوة حصانه، غير أنه تم الإمساك به في منتصف الطريق وتم منعه من مصاحبتها.

غير أن الشاب الشفوف بحبيبته أعاد المحاولة، واختار لهذه المرة حصانا قويا وسريعا. ليتمكن من النجاح وأخذ الفتاة ويخسر أهالي القبيلة كل جهودهم لمطاردته.

 ومنذ سنوات عديدة تعود هذه القصة إلى تلال وبيوت قبائل جبالة يحكيها الآباء للأطفال، على وقع مطاردة تدوم 3 أيام من كل سنة لعروس رمزية سمّاها الأهالي ماطا.

كما ترتبط طقوس هذه اللعبة والفرجة في نفس الوقت  ارتباطا روحيا، مع الولي الصالح عبد السلام بن مشيش العلمي الذي يقع ضريحه بالمنطقة التي تضم قبائل بني عروس. لكونه الرجل المؤسس لهذا النوع من الرياضات بشمال المغرب.

كما يرى البعض وحسب بعض المحللين أن أصل هذا النوع من الفروسية، مستوحى من لعبة مشابهة في آسيا الوسطى لكنها أكثر عنفا تُسمى "بوزكاشي".

 ويُرجع ذلك إلى "رحلة قام بها العارف بالله عبد السلام بن مشيش لزيارة أحد الأئمة هناك"؛ حيث أُعجب باللعبة الحربية بعدما عاين مجموعة من الفرسان يطاردون بعضهم على الخيول في سباق عنيف لحيازة جثة عنزة، بدل الدمية التي تتميز بها اللعبة المغربية. وبهذا يكون ابن مشيش، قد أضفى نمطا روحيا واجتماعيا على اللعبة من خلال ربطها بقيم النبل والجمال والرفق بعيدا عن العنف.

وتتمتع "ماطا" بقيمتين أساسيتين، هما "الطريقة الصوفية" و"وتقليد الفروسية" إذ أن رمزية هذا التقليد العريق يتجلى في إثبات قدرات مجموعات الفرسان لكل قبيلة، والتعبير عن القوة والنخوة والشجاعة لديها.

ومن بين الاحتفالات الموازية هي استعراضات فرق الخيّالة المشاركة من قبل مختلف القبائل بالمنطقة، طقوس إعداد الفرسان لأحصنتهم قبل النزول إلى السهل وانطلاق سباقهم.

كما تتميز بكون كل المجموعات المشاركة تتشكل من الذكور فقط، ما قد يبدو طبيعيا باعتبار خصوصية المنافسة التي تحدث فيها احتكاكات عنيفة أحيانا.

وتبرز ماطا كفرصة للقاء ثقافات ضفتي البحر الأبيض المتوسط في منطقة بني عروس الريفية. وينتظر أهالي المنطقة والمهتمون بفروسية ماطا لحاق الأخيرة بمواطنتها "التبوريدة" لتُصنَّف تراثا عالميا في السنوات المقبلة؛ وتسجيل هذا الفن من الفروسية في قائمة التراث غير المادي لليونسكو، وذلك بعد إدراج "التبوريدة" أو "الفانتازيا" المغربية الشهيرتين عالميا.

تعليقات



الموافقة على ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط ليقدم لك تجربة تصفح أفضل. باستخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط

قراءة المزيد