الدولة المرابطية هي سلالة مسلمة من الأمازيغ أسست إمبراطورية امتدت على مناطق المغرب الأقصى والأندلس
الدولة المرابطية هي سلالة مسلمة من الأمازيغ تركزت في أراضي
المغرب الحالي. أسست إمبراطورية امتدت على مناطق المغرب الأقصى والأندلس، بدءًا من
خمسينيات القرن الحادي عشر واستمرت حتى سقوطها في أيدي الدولة الموحدية عام 1147م،
انبثقت من حركة دعوية إصلاحية إسلامية اعتمدت في بدايتها على قبائل صنهاجة بعد التحام
عدد من قبائلها الكبيرة. تحول هذا الالتحام إلى سند شعبي لم يلبث بدوره أن تحول إلى
سند عسكري أفضى في النهاية إلى نشوء قوة إقليمية اقتصادية لسيطرة تلك القبائل على عدد
من الطرق التجارية، إضافة إلى الروح الإسلامية الإصلاحية المبنية على اعتقاد مالكي
سني، فسمت نفسها تسمية معبرة عن ذلك وهي «دولة الرباط والإصلاح». كان أول تحرّك عسكري
للملثمين صوب قبيلة جدالة، وبعد إتمام ضم بقية القبائل الصنهاجية البدوية إلى دعوتهم
تقدموا نحو الشمال لمواجهة الزناتيين المسيطرين على الخط التجاري الواصل بين الصحراء
والأندلس، وكان دخول وسيطرة المرابطين على سجلماسة سنة 447هـ باكورة عملياتهم العسكرية
الكبرى لتوحيد المغرب الإسلامي.
سيطرت الدولة الجديدة على رقعة جغرافية تمتد من المحيط الأطلسي غربًا وبلاد
شنقيط وحوض نهر السنغال جنوبًا وهو مكان مخاض ميلاد الحركة، وامتدّت شرقًا لتحاذي إمبراطورية
كانم وتزاحمها على بحيرة تشاد في الصحراء الكبرى. وامتد هذا المجال في الشمال مخترقا
جبال الأطلس بتلالها وكبيرها ومتوسطها وصغيرها، وتجاوزت البحر المتوسط فشملت أجزاء
من شبه الجزيرة الأيبيرية، وسيطرت على الأندلس. كانت تحدّ دولة المرابطين من الشمال
ممالك قشتالة ونبرّة وأراغون، ومن الشرق إمارات بني زيري وبني حماد، وفي جنوب الصحراء
بحكم الأمر الواقع، كل من ممالك بامبوك وبوري ولوبي وإمبراطوريتي مالي وغانا.
وأبرز وجوه هذه الحركة هو أمير المسلمين يوسف بن تاشفين الذي أسس مراكش
واتخذها عاصمة للدولة، ودخل الأندلس وأخضعها لسلطته بعد معركة الزلاقة، بعد أن استنجده
ملوك الطوائف من زحف الممالك المسيحية القشتالية. وعايش ابنه الأمير علي بن يوسف أبرز
فترات الدولة المرابطية، ففي حكمه الذي استمر قرابة 37 سنة، وصل سلطان المرابطين بالأندلس
إلى الذروة في السنوات العشر الأولى، حيث توطدت دولتهم حتى أوشكوا على استرداد كل ما
غنمه ألفونسو السادس، ثم تلتها فترة ركود تأرجح فيها مصيرهم بتوالي الانتصارات والنكسات،
تلتها فترة النكبات وقيام الثورات في الأندلس وفي المغرب حيث قامت حركة الموحدين التي
قضت على دولة المرابطين بدخولها العاصمة مراكش سنة 541هـ.
مصطلح "المرابطون" يأتي من الكلمة العربية "المرابط"،
في اللغة العربية، تعني كلمة "المرابط" حرفيًا "الشخص الذي يربط"
ولكنها تعني مجازيًا "الشخص المستعد للمعركة في الحصن". كان اسم "المرابطون"
مرتبطًا بمدرسة من مدارس الشريعة المالكية تسمى "دار المرابطين" التي أسسها
عالم يُدعى وجاج بن زلو في السوس الأقصى (المغرب حاليا). أرسل ابن زالو تلميذه عبد
الله بن ياسين للتبشير بالإسلام المالكي بين البربر الصنهاجيين. ومن ثم، فإن اسم المرابطين
يأتي من أتباع دار المرابطين، "بيت أولئك الذين كانوا مرتبطين معًا في سبيل الله".
ليس من المؤكد بالضبط متى أو لماذا اكتسب المرابطون هذا اللقب. في عام 1068، قبل ذروتهم،
أطلق عليهم أبو عبيد البكري اسم المرابطين، لكنه لم يوضح أسباب ذلك. وبعد ثلاثة قرون،
اقترح ابن أبي زرع أن عبد الله بن ياسين اختار هذا الاسم في وقت مبكر.
قد يكون الاسم مرتبطًا برباط وجاج بن زلو اللمطي في قرية أغلو (بالقرب
من تزنيت الحالية)، حيث تلقى الزعيم الروحي المرابطي المستقبلي عبد الله بن ياسين تدريبه
الأولي. لاحظ كاتب السيرة المغربي في القرن الثالث عشر ابن الزيات التديلي، والقاضي
عياض من قبله في القرن الثاني عشر، أن مركز التعلم في وجاج كان يسمى دار المرابطين،
وربما ألهم هذا اختيار ابن ياسين لاسم الحركة.
عند ظهور المرابطين، كان المغرب الأقصى يخضع لحكم عدة دويلات أو تجمعات
قبلية، أبرزها أربع شوكات قوية لها وزنها: برغواطة وغمارة ومغراوة في الوسط والشمال
وطوائف من الشيعة البجلية والوثنيين في الجنوب.
أسست في برغواطة دولة في القرن الثاني الهجري في تامسنا (الشاوية حاليًّا)،
تمتدُّ من الرِّبَاط الحالية إلى بلدة أزمور مصب أم الربيع. أشهر حكامها صالح بن طريف
البرباطي، نسبة إلى نهر برباط بالأَنْدَلُس؛ فصارت كلمة برباطي تُطلق على كل من اعتنق
ديانته، ثم حُرِّفَت مع الوقت إلى برغواطي. ادعى ابن طريف النبوة، فأخرج لهم قرآنًا
بلغة بربرية محلية يتكون من ثمانين سورة، ومن شرائعه صوم رجب بدل رمضان، وأضاف في الوضوء
غسل السرة والخاصرتين، وأباح الزواج بأكثر من أربع وغيرها من الشرائع. وكانت المالكية
تُكّنُ عداءً كبيرًا للبرغواطيين، خاصة وقد أجمع فقهائها على خروج البرغواطيين عن الإسلام؛
فأوجبوا حربهم بعد أن دخل تحت حكم البرغواطيين الكثير من القبائل، فأطلقوا حملة لقتال
المرتدّين، فقاتلهم الأدارسة في بداية الأمر، ومن بعدهم الأمويين والمغراويين.
أما غمارة، فكانت قبائل تسكن جبال الريف الممتدة من سبتة وطنجة غربًا،
إلى وادي نكور (الذي كانت تحمل اسمه مملكة نكور) بالقرب من الحُسَيْمة الحالية، وتمتد
جنوبًا إلى قرب مدينة فاس، وغمارة أحد قبائل مصمودة، وقد اشتهرت بالمشعوذين وكان يقصدهم
الخوارج للاحتماء في جبالهم. ظهر فيهم حاميم الغماري وهو رجل ادعى النبوة ووضع لهم
قرآنًا بلغتهم المحلية، ومن تعاليمه تحليل أكل أنثى الخنزير، وأسقط عنهم الحج والطهر
والوضوء، وحرَّم بيض الطيور.
استقل بنو مغراوة الزناتيين عن الدولة الأموية في الأندلس سنة 390هـ /
1000م وبسطوا سيطرتهم تدريجياً بدءاً من فاس حتى سجلماسة وأغمات وتامدولت، بعدما خاضوا
صراعات مستمرة وفوضى سائدة جعلت الحياة اليومية لا تطاق وحالت دون أي نشاط اقتصادي
طبيعي في عهد الزناتيين. يبدو أن شيئا ما في هذه الوضعية العامة قد استفز فقهاء المالكية
ودفعهم إلى التنديد بها ومعارضتها علنياً، خصوصاً وأن الزناتيين لم يكونوا خصوماً من
الوجهة الدينية بحكم كونهم من أهل السنة في ذلك الوقت، بل أن منهم من كان مولع بجهاد
برغواطة. لكن سلسلة من المجاعات التي استمرت من سنة 380 هـ إلى 462 هـ، جعلت الزناتيون
يثقلون بالضرائب على الرعية بشكل دفع الفقهاء، وبالخصوص أبي عمران الفاسي، إلى إعلان
الثورة ضدهم بدعوتهم إلى تغيير منكر المظالم وأمرهم بمعروف رد الحقوق إلى أصحابها.
الأمر الذي يؤكد الروابط الوثيقة بين آراء الفقهاء المعنيين بالحركة المرابطية منذ
أن كانت مشروعاً.
كان اسم المُلَثَّمين يطلق على قبيلة لمتونة ثم توسع وأصبح شعارًا لكل
من حالف لمتونة ودخل تحت سيادتها بحرصهم على نشر الإسلام ومواجهة شوكة من يعاديه. يعود
تاريخهم إلى أيام تيولوثان بن تيكلان اللمتوني، الذي حارب القبائل الوثنية ونشر بينها
الإسلام. سكنوا منطقة تمتد من غدامس شرقًا إلى المحيط الأطلسي غربًا، ومِن جبال درن
شمالاً إلى وسط الصحراء الكبرى جنوبًا. افترق بعد تلك الحقبة المُلَثَّمون، واستمرَّ
شتاتهم مدة مائة وعشرين سنة، وأصبحت قبائلهم تفتقر إلى دعم ديني وروحي. بعدها تحالفت
قبائل صنهاجة الكبرى، بمثابة ردة فعل، من طرف تلك القبائل على ما عانته من تهميش وإبعاد
عن المنافع والأرباح التي كانت توفرها التجارة عبر الصحراء وذلك بعد أن سلبت منها مدنها
التجارية وعلى رأسها أودغشت، بعد تمكن التحالف بين زناتة ومملكة غانا من إسقاط مملكة
أودغست الصنهاجية في أواخر القرن الرابع الهجري، وطرد الملثمين من عاصمتهم، وحل محلهم
الزناتيون والعرب في سكناها واستغلال مكانتها التجارية. أدت هذه الوضعية إلى انزواء
الملثمين في أعماق الصحراء وابتعادهم عن واحاتها ومراكزها التجارية. كان للجفاف الذي
عرفته صحراء الملثمين في بداية القرن الخامس الهجري أثر كبير على ثروتهم الحيوانية
ودور في الضغط عليهم من أجل البحث بشكل جدي أكثر من أي وقت مضى عن مصدر آخر للعيش،
مما دفعهم إلى التفكير في استعادة دورهم التجاري في المنطقة. فتوحدوا في ظل قيادة واحدة،
بزعامة أبي عبد الله محمد بن تيفاوت المعروف ب تارشتا اللمتوني والذي اشتهر بالصلاح
والجهاد. وكان شعاره الجهاد في سبيل الله من أجل نشر الإسلام على نهج أهل السنة والجماعة
في ربوع الصحراء والسودان الغرب. إلا أنه توفي بعد ثلاث سنوات من توليه زعامة الحلف
الصنهاجي، وكان مقتله على يد جيوش مملكة غانة، فخلفه صهره يحيى بن إبراهيم.
النشأة والتأسيس
المقالات الرئيسة: يحيى بن إبراهيم وأبو عمران الفاسي وعبد الله بن ياسين
ووجاج بن زلّو
لما انتقلت الرئاسة إلى يحيى بن إبراهيم، خرج من دياره قاصدًا الجزيرة
العربية لأداء فريضة الحج تاركًا ابنه إبراهيم على رأس السلطة عام 427 هـ/1035م. وبعد
أداء الفريضة، انطلق بين المدارس الفقهية طالبًا العلم، فكان لقائه في القيروان بالإمام
أبي عمران الفاسي. شرح يحيى لأبي عمران جهل قومه بأصول الدين، وطلب منه أن يبعث معه
أحد طلبته ليعلم قَومه، وكانت تلك هي اللبنة الأولى التي قامت عليها الدولة الصحراوية
على أسس دينية حسب مفهوم أهل السنة والجماعة، للقضاء على الفوضى السياسية والدينية
التي كانت تعيشها بلاد المغرب.
كان أبو عمران الفاسي قد نشأ في فاس التي كانت تحت سلطة مغراوة. حاول أبو
عمران مواجهة هذه القوى السياسية في مسقط رأسه؛ إلا أنه فشل في ذلك، واضطر للخروج من
المغرب إلى القيروان، ليرسم فيها أطر دعوة إصلاحية بمشاركة عناصر أخرى مشرقية، بعد
أن رحل أبو عمران قبل ذلك إلى بغداد، وقيل جالس الفقيه الأشعري الماوردي، وربما اطّلع
على مؤلفاته التي اشتهرت بعمقها في الفكر السياسي، والتي أبرزت تفهم كاتبها لمعطيات
عصره السياسي، فاشترط تحالف الدين والقوة والمال من اجل إقامة الدولة. ويبدو أن أبا
عمران كان شديد التأثر بتلك الرؤية، حين سعى إلى تطبيقها بالمغرب، عن طريق الاستعانة
بعصبية صنهاجة، والتحكم في تجارة السودان لإقامة دولة المرابطين. كان خطاب أبي عمران
ليحيى بن إبراهيم ذا مدلول ينبئ عن مشروع جهادي إصلاحي كان يسعى إلى تحقيقه لمواجهة
التفكك المذهبي في المنطقة وتصحيح الأوضاع التي بسببها خَرج من موطنه مُكرهًا.
«إن
الفقيه الفاسي قد ندب الزعيم الصنهاجي إلى قتال برغواطة ببلاد السوس وقتال زناتة على
ما صدر منهم من الظلم واستنْزال رؤسائهم من الولاية.»
عرض أبو عمران المسألة على طلابه، الذين اعتذروا متذرعين ببُعد الصحراء
وبداوة سكانها وغلظة طباعهم، وعدم تعودهم على الانصياع لأوامر الدين، ورأوا أن انتقاد
عاداتهم المخالفة للإسلام، سيعرضهم للخطر. فوجه الفقيه رسالة مع الأمير يحيى ابن إبراهيم
إلى تلميذ له كان يعيش على الحدود الشمالية للصحراء بالمغرب الأقصى، يعرف بوجّاج بن
زلّو اللمطي الذي ينتمي إلى الشرفاء الأدارسة، يطلب فيها منه أن يوفد مع يحيى من يثق
به.
إنني أعرف ببلاد نفيس من أرض المصامدة فقيهاً حاذقاً تقياً ورعاً لقيني
وأخذ عني علماً كثيراً، وعرفت ذلك منه، واسمه وگاگ بن زلو اللمطي من أهل السوس الأقصى
وهو الآن يتعبد ويدرس العلم ويدعو الناس إلى الخير في رباط هنالك، وله تلامذة جمة يقرؤون
عليه العلم.»
كان رباط وجاج يقع بقرية أكلو والتي اشتهرت لاحقًا بكونها مهد انطلاق الدعوة
المرابطية. ولقد أثرت مسألة هل رباط أكلو هو المنطلق الفعلي لدولة المرابطين أم رباطًا
آخر أسسه وجاج ودرس فيه عليه عبد الله بن ياسين قبل تأسيس مدرسة أكلو، تتضارب آراء
الباحثين حول هذه المسألة. وقع اختيار وجاج على عبد الله بن ياسين الذي اصطحبه الأمير
يحيى إلى الصحراء. وأثناء عبورهما لها، حرص يحيى على أن يظهر ابن ياسين في أعين الملثمين
كأنه شخص مقدس، فكان كلما اقتربا من حي من أحياء صنهاجة ينزل عن دابته، ويقود بالفقيه
دابته إعلاء لشأنه وتكريمًا له، ويصفه لهم بأنه حامل سنة رسول الله، قد جاء يعلم أهل
الصحراء ما يلزمهم في دين الإسلام. وأقاما هناك رباطاً، بلغ عدد دارسيه سبعين رجلاً
يتعلمون ويتفقهون في الدين بواسطته، ثم زاد عددهم حتى أمرهم ببناء مدينة في موضع يقال
له «أرتنني» ففعلوا طائعين، إلى أن نشأ خلاف بينهم، فثاروا ضده وهدموا داره وأخذوا
منه بيت مالهم، فخرج متسترًا، وأراد العودة إلى شيخه وگاگ. لكن اعترض عليه من بقي معه
وطالبوه بالانزواء مع من يرغب في صحبته والتعلم عليه في جزيرة منعزلة، فاقتنع بذلك،
وكانوا سبعة من جدالة وإثنين فقط لمتونة، هما يحيى بن عمر وأخوه أبي بكر. وظلت جماعات
التائبين تتوارد عليه إلى أن اجتمع حوله ألف رجل فحولوا ملجأهم إلى رباط انطلق منه
المجاهدون لإخضاع قبائل الصحراء. أفلح عبد الله بن ياسين في تحريك القبائل الصحراوية
من لمتونة وكدالة ومسوفة وغيرهم. وكان ابن ياسين يستشير شيخه وجاج بن زلو ويرجع إليه
في تدبير أموره، وكان يتم التواصل بينهما بالمراسلات. وقد احتفظت المصادر التاريخية
بواحدة منها تتضمن توضيح ابن باسين موقفه من شن الحروب على القبائل الخارجة عليه وتشدده
في الحدود، بعد أن أنكر عليه شيخه وجاج ذلك.
بداية الدعوة
كان الرباط الذي أقامه ابن ياسين بنهر السنغال يقع قريبًا من مملكة غانا،
متعمدًا الاقتراب لتدريب جماعته في بيئة جهادية، والعيش في الرباط في حالة استنفار
وحرب مستمرة، لكنه غير بعيد عن ديار المُلَثَّمين، كي يستند إليهم في حالات الخطر.
وعمل على تحكيم الشريعة الإسلامية في مُجْتَمَعه الجديد، واهتمامه البالغ بالفقهاء
والعلماء جعلهم يلتفون حوله ويسعادونه على تربية المرابطين بالرباط وتعليمهم وتأهيلهم
للمرحلة القادمة، وكان لا يمنعه الحياء من طرد مَن لا يراه مناسبًا لهدفه المنشود.
فتحول رباط السنغال إلى منارة في تلك الصحاري، وأصبح يستقطب أبناء قبائل صنهاجة إليه،
كما وفر بعض الأمن والاستقرار في تلك المنطقة، مما شجع القوافل على المرور بها، فأدَّى
ذلك إلى ازدهار التجارة. وتميَّز الرِّبَاط بإدارة وتنظيم جيد ساعد على تشكيل مجلس
للشورى، وجماعة للحلِّ والعقد تطورت مع مرور الأيام، وأصبحت مرجعية عليا لِلْمُلَثَّمِين.
وبتقدم مرحلة تكوين المرابطين الفقهية والحركية والتنظيمية، أصبح لعبد الله بن ياسين
رجال يعتمد عليهم في تبليغ الدعوة لترغيب النَّاس في الإسلام، بدأ بإرسالهم إلي القبائل،
فلبت مجموعة منها. ثم أمر تلاميذه أن يذهب كل منهم إلى قبيلته ليدعوهم إلى العمل بما
أنزل الله لنبيه، فلم يجدوا استجابة كبيرة من أقوامهم، فخرج إليهم بنفسه، فجمع شيوخ
القبائل ووعظهم خلال سبعة أيام، فلم يستجيبوا، فلمَّا يئس منهم أعلن الجهاد عليهم.
عين باشر يحيى بن إبراهيم للقتال ومضى للحرب بنفسه، فقام ابن ياسين فأدَّبه،
لأنه اعتبَرَها خطوة متهورة وعدم ضبط للنفس، خصوصًا وأن الرجال المرابطين كانوا غير
مستعدين للمنازلة. لكن بعدما رأى ابن ياسين أنه استكمل التدريب وجهز العدة، تحرّك بالمرابطون
أولاً صوب قبيلة جدالة، حيث اشتبكوا معهم وهزموهم وانقاد من تبقى منهم لدعوة بن ياسين،
ثم ساروا إلي قبيلة لمتونة فقاتلوهم وانتصروا عليهم، ودخلوا في طاعة المرابطين، ثم
مضوا إلى قبيلة مسوفة فدخلت تحت لوائه وبايعوه، فلما شهدت باقي قبائل صنهاجة هذه الأحداث
بادرت إلى مبايعة عبد الله بن ياسين، وقلدتها كثير من قبائل الصحراء في ذلك. فترك في
كل من تلك المنازل أحد من تلامذته يعلمهم القرآن وشرائع الإسلام. تُوفي الأمير يحيي
بن إبراهيم في إحدى الغزوات المرابطية، فقدَّم ابن ياسين مكانه يحيى بن عمر اللمتوني،
بعد أن اعتذر جوهر الجدالي زعيم جدالة بعد ابن إبراهيم، ورفضه المنصب. يُعد قرار ابن
ياسين وجوهر قرارًا سياسيًا بعيد النظر، فصرفهم الزعامة إلى رجل لمتوني لرئاسة قوم
غالبيتهم من جدالة فيه معانٍ تربوية تقاوم تقاليد العصبيات القديمة، وكذلك تجذب اللمتونيين
لدخول الدعوة المرابطية. وبذلك أصبح للحركة قيادة دينية وسياسية ومجالس شورى. وتحت
زعامة يحيى بن عمر دخل الآلاف من قبيلة لَمْتُونة في جماعة المرابطين.
صوب المرابطين أعينهم نحو إمبراطورية غانا لإسترجاع أوداغست التي كان يسيطر
عليها صنهاجة في حلفهم السابق، فتوجهوا إلى الشرق نحو منحنى النيجر سنة 447 هـ
1056م، وخاضوا معركة قاسية توفي خلالها يحيى بن عمر، وانتصر المرابطون في الأخير، واستولوا
على أوداغست وتوسعوا جنوبًا في بلاد غانا حتى وصلوا ديار التكرور، الذين تحالفوا معهم
وفتحوا الكثير من بلاد السودان الغربية. فذاعت شهرة المرابطين في أرجاء الصحراء بسبب
صدهم للفساد والنهب بحد السيف، ونشر تعاليم الإسلام على منهج المذهب المالكي، فتضاعف
عدد المرابطين بذلك، كما زاد رصيد بيت المال بأموال الأعشار والزكاة، الأمر الذي مكنهم
من مواصلة حملتهم لنشر الدعوة مدة أربعة عشر عاماً حتى خضوع عاصمة غانا سنة 454 هـ
1062م.
فتح بلاد السوس
سنة 444 هـ / 1053م كتب زعيم فقهاء سجلماسة ودرعة، وجاج بن زلو اللمطي،
إلى تلميذه عبد الله بن ياسين يُرغِّبه في مساعدتهم للتخلص من حكامهم زناتة المغراويين
وأميرهم مسعود بن واندين. بالإضافة للهاجس الديني، كان الطلب يحمل نبرة أخوية قبلية،
حيث كانت تستوطن جهة سجلماسة أقلية مهمة من صنهاجة وسط سلطة زناتية.
استشار ابن ياسين مجلسه، فكان القرار بالإجماع على مد يد المعونة لهم،
وقالوا له: «أيُّها الشيخ الفقيه، هذا ما يلزمنا فَسِرْ بنا على بركة الله.» فخرجت
جموع المرابطين في الثلث الأول من سنة 445 هـ إلى بلاد درعة، وعدتهم ثلاثون ألف جمل.
تصدى لهم المغراويين، وانتهت المعركة بهزيمة المغراويين ومصرع مسعود وتشتت جيشه، فدخل
ابن ياسين سجلماسة وعين عليها عاملاً من لمتونة وحامية مرابطية وهي قاعدة أنشئوها قرب
سجلماسة تعرف باسم مدينة تبلبالة، وغير مَا وجد بهَا من منكرات حسب مفهومه الأصولي
للدين، كآلات الموسيقى ونحو ذلك، وأحرق الدّور الَّتِي كَانَت تبَاع بهَا الخمر وأزال
الضرائب التي كانت تخنق الناس كالمكوس، ثم عاد إلى الصحراء.
انفرد البكري بذكر حادثة انتفاضة ساكنة سجلماسة على المرابطين، بسبب صرامتهم
في الأمور الدينية والإجتماعية وأثرها على الجانب الاقتصادي، فتحول الفقهاء إلى أقلية
وسط أغلبية ساخطة. استغل الأعيان والتجار هذا الأمر فأجهزوا على ممثلي المرابطين بالمدينة
مستغلين تواجهدهم مجموعين بالمسجد. فعادت سجلماسة لسلطة مغراوة الزناتيين.
بعد النكسة ظهرت مشكلة أخرى، وهي انشقاق قبيلة جدالة، بسبب التهميش الذي
لاحظوه في كون زعماء الجيش، يحيى بن عمر وأخوه أبو بكر، كلهم من لمتونة، بينما في السابق
كان يحيى بن إبراهيم، الجدالي، مطاعا بين كل الملثمين. قام عبد الله بن ياسين بتوزيع
الجيش المرابطي على الشكل التالي: يحيى بن عمر بمنطقة أدرار بالقرب من جدالة تحسبا
لأي تمرد أو غارة على مُؤَخَّرَةُ الجيش، وأبو بكر بن عمر متقدما في أعلى درعة وقوات
ابن ياسين في موقع وسط بينهما.
سنة 448 هـ حاصر نحو ثلاثين ألفاً من مقاتلي جدالة قوات يحيى، وكان معه
لبّي بن ورجاي رئيس تكرور، وكان التقاؤهم بموضع يسمى تيفريلى بين تاليوين وجبل لمتونة.
تُوفى الأمير يحيى بن عمر، فَعيَّن عبد الله بن ياسين أخاه أبي بكر مكانه،
فتأهَّب أبو بكر لغزو بلاد السوس. وفي ربيع الثَّانِى سنة 448 هـ/يونيو سنة 1056م،
سار المرابطون صَوْبَ بلاد السوس، وفي معركة الواحات بزغ نجم يوسف بن تاشفين التي لعب
فيها دور قائد مقدمة جيش المرابطين المهاجم، وبعد فتح مدينة سجلماسة عيَّنه الأمير
أبو بكر واليًا عليها، فأظهر مهارة إدارية في تنظيمها، ثم غزا بلاد جزولة وفتح ماسة
ثم سار إلى تارودانت قاعدة بلاد السوس وفتحها، وكان بها طائفة من الشيعة، فحل مذهب
أهل السنة والجماعة في مكانها.
سار المرابطون بعدها إلى مدينة أغمات وحاصروها، فاضطر أميرها لقوط المغراوي
إلى الفرار، فدخلها المرابطون عام 449 هـ/1057م وأقاموا فيها شهرين، وتتبعوا فلول المُغراويين،
واستطاعوا قتل أميرهم الفار، وتزوج أبو بكر بن عمر من زينب النفزاوية زوجة لقوط المغراوي.
ثم سارت جموع المرابطين إلى أرض برغواطة، ونشبت بينهم معارك متتالية أصيب فيها موجِّه
الحركة المرابطية ابن ياسين بجراح فحُمل إلى مقرِّ القيادة في معسكر المرابطين، وجمع
شيوخ المرابطين وحثَّهم على القتال وحذَّرهم من التفرقة والتحاسد، وفارق الحياة بعدها.
واتفق المرابطون على اختيار أبي بكر مكان ابن ياسين، وبايعوه، فجمع بذلك بين الزعامة
الدينية والسياسية، إلا أن القاضي عياض وابن خلدون يؤكدان على أنه وقع الاختيار للزعامة
الدينية على سليمان بن حدو. تولَّى القائد الجديد الزعامة وخرج لقتال جنود الدولة البرغواطية،
فهزمهم، وأعلنوا له الطاعة والولاء، ثم قصد أبو بكر مدينة أغمات، فمكث بها.
بابع أبو بكر سيره في شهر صفر سنة 452 هـ/مارس 1060م، ففتح كل بلاد زناتة
ومكناسة ولواتة بعد حصارها. وعاد إلى أغمات، قاعدة المرابطين العسكرية، وبعض اكتظاظها
قرر أبو بكر اختيار عاصمة له. فوقع اختياره على موقع مراكش الحالية. وبعد التخطيط شرعوا
في بنائها، لكن خبر إغارة قبيلة جدالة على لمتونة، جعلت من الأمير يسير إلى الصحراء
لأجل الإصلاح بين القبائل المتنازعة، فقسَّم جيشه إلى فريقين، أبقى نصفه مع ابن عمه
يوسف وكُلّفه بتأديب القبائل المغربية المتمردة كمغراوة وزناتة وبنى يفرن. وسار أبو
بكر للتوسط بين لمتونة وجدالة، وتمكّن من ذلك، ثم توسع في جهاد قبائل الصحراء من السود
الوثنيين لتدخل في الإسلام؛ وبعد تعمقه في الصحراء وتحقيق نجاحات كبيرة في مهمته الدعوية؛
رجع إلى المغرب الأقصى بجيوشه؛ فاستقبلهم يوسف بن تاشفين بحفاوة عظيمة، ووقع اختيار
أبو بكر بن عمر على يوسف بن تاشفين ينوب عنه على حُكم المغرب، بعد أن جمع شيوخ المرابطين
والكُتَّاب والشهود، وأشهدهم على نفسه بالتخلي ليوسف عن الإمارة، معللاً اختياره لتدين
وشجاعة وعدل يوسف، وأوصاه:
الدولة المرابطية يا يوسف إنِّي قد ولَّيتُك هذا الأمر وإنِّي
مسئول عنه؛ فاتق الله في المُسْلِمين، وأعتقني وأعتق نفسك من النار، ولا تُضيِّع من
أمر رعيتك شيئًا؛ فإنَّك مسئول عنهم، والله تعالى يصلحك ويمدك ويوفقك للعمل الصالح
والعدل في رعيتك، وهو خليفتي عليك وعليهم. الدولة المرابطية.فزوده يوسف بالمال والخيل والمؤن،
وعندها استأنف أبو بكر الجهاد والغزو. وطلق أبو بكر زينب النفزاوية عندما عزم على السفر
مبررًا ذلك بكونها لا طاقة لها على العيش والترحال المستمر مع الجيش تحت حرارة الصحراء،
ونصحها بالزواج بابن عمه، فتزوَّجها يوسف بعد تمام عدَّتِها.